في ختام حملة تصفيوية استثنائية أهلتها للتأهل المباشر إلى كأس العالم 2026، حققت الجزائر إنجازاً هجومياً مبهراً يُلخّص مستوى التفوق الذي وصلت إليه. بـ24 هدفاً في 10 مباريات، أصبح المنتخب الوطني صاحب أقوى هجوم في القارة الأفريقية بأكملها، في رقم يختصر منظومة هجومية فعّالة ومتنوعة تجمع بين السرعة والدقة والتكامل الجماعي. وفي قلب هذا الإنجاز، يبرز اسم محمد الأمين عمورة كظاهرة كروية حقيقية أعادت كتابة معايير النجاعة الهجومية في تاريخ الخضر.
24 هدفاً.. رقم يختصر التفوق والهيمنة
الرقم 24 ليس مجرد إحصائية عابرة في سجلات التصفيات، بل هو شهادة حقيقية على التحول الهجومي الكبير الذي شهده المنتخب الجزائري تحت قيادة فلاديمير بيتكوفيتش. بمعدل 2.4 هدف لكل مباراة، أثبتت الجزائر أنها لم تعد تعتمد على الدفاع الصلب والنتائج الضيقة فقط، بل باتت تملك قوة نارية هائلة قادرة على سحق أي دفاع أفريقي.
هذا الرقم يضع الجزائر في صدارة الترتيب الأفريقي للهجوم الأقوى في التصفيات، متفوقة على منتخبات عريقة مثل نيجيريا، مصر، المغرب، والسنغال. التفوق لم يكن بفارق بسيط، بل كان واضحاً وجلياً، مما يعكس جودة الأداء الهجومي وليس مجرد الحظ أو الاستفادة من منافسين ضعفاء.
الأهداف الـ24 لم تأتِ من لاعب واحد أو مصدر وحيد، بل كانت نتيجة منظومة هجومية متكاملة تضم مهاجمين محوريين، أجنحة سريعة، لاعبي وسط مبدعين، وحتى مدافعين يُساهمون في الأهداف من الكرات الثابتة. هذا التنوع في مصادر التهديف يجعل الجزائر منتخباً يصعب على أي مدرب خصم وضع خطة دفاعية شاملة لإيقافه.
عمورة.. هداف أفريقيا وصانع نصف الأهداف
في قلب هذا الإنجاز الهجومي الجماعي، يقف محمد الأمين عمورة كالمحور الأساسي والسلاح الأكثر فتكاً. اللاعب الشاب أنهى التصفيات هدافاً للقارة الأفريقية بأكملها بـ10 أهداف، في إنجاز تاريخي يضع اسمه في مصاف أساطير الكرة الجزائرية. لكن الأبرز من الرقم نفسه هو الظروف التي تحقق فيها.
عمورة لم يشارك في جميع المباريات كأساسي، بل خاض 7 مباريات فقط من أصل 10 كلاعب أساسي في التشكيلة الابتدائية. هذا يعني أنه سجل 10 أهداف في 7 مباريات أساسية (بمعدل 1.43 هدف لكل مباراة أساسية)، وهو معدل نادر جداً حتى على المستوى العالمي. حتى في المباريات التي دخلها كبديل، ترك بصمته وساهم في النتائج.
لكن مساهمة عمورة لم تتوقف عند التسجيل فقط. اللاعب ساهم بشكل مباشر في 14 هدفاً من أصل 24، بين صناعة وتسجيل. هذا يعني أن أكثر من نصف غلة المنتخب الهجومية (58.3% بالضبط) تمت بمشاركة مباشرة من عمورة. رقم خيالي يُظهر أن الجزائر لم تكن تملك مجرد مهاجم جيد، بل ظاهرة كروية تُغيّر مجرى المباريات بمفردها.
التمريرات الحاسمة التي قدمها عمورة (4 تمريرات على الأقل) تعكس أنه ليس مجرد “هداف أناني” يبحث عن المجد الشخصي، بل لاعب شامل يفهم متى يُسجل ومتى يُمرر، متى يحتفظ بالكرة ومتى يوزعها. هذا الذكاء التكتيكي يجعله أخطر من مجرد مهاجم صريح، لأنه يُربك الدفاعات التي لا تعرف كيف تتعامل معه.
18 هدفاً في 35 مباراة.. نجاعة تاريخية
عندما ننظر إلى السجل الدولي الكامل لمحمد عمورة مع المنتخب الوطني، تزداد الصورة وضوحاً حول حجم الظاهرة التي نتحدث عنها. سجل عمورة 18 هدفاً في 35 مباراة دولية، بمعدل 0.51 هدف لكل مباراة. هذا المعدل يضعه ضمن أفضل 5 هدافين في تاريخ المنتخب من حيث النجاعة.
لكن الأهم من ذلك، أن عمورة شارك كأساسي في 13 مباراة فقط من أصل 35. هذا يعني أن معظم مشاركاته كانت كبديل في الدقائق الأخيرة، أو كأساسي في مباريات قليلة نسبياً. إذا احتسبنا المعدل التهديفي بناءً على المباريات الأساسية فقط، نجد أن عمورة سجل 18 هدفاً في 13 مباراة أساسية + مشاركات كبديل، أي بمعدل يقارب 1.4 هدف لكل مباراة أساسية.
هذا المعدل التهديفي اللافت يضع عمورة ضمن أفضل المهاجمين في تاريخ المنتخب الجزائري من حيث النجاعة الزمنية. حتى أساطير مثل رابح ماجر، عبد المالك زيايا، أو إسلام سليماني، احتاجوا لعدد مباريات أكبر بكثير لتسجيل أرقام مشابهة في بداياتهم. عمورة يُحقق في سنوات قليلة ما يحتاج آخرون لعقد كامل لإنجازه.
منظومة هجومية متكاملة.. وليس عمورة فقط
رغم التركيز المستحق على عمورة، إلا أن الإنجاز الهجومي الجماعي يستحق التقدير أيضاً. الـ24 هدفاً جاءت من 10 لاعبين مختلفين، مما يعكس عمق الخيارات الهجومية المتاحة لبيتكوفيتش.
رياض محرز سجل أهدافاً مهمة في لحظات حاسمة، مستغلاً خبرته الدولية الكبيرة. بغداد بونجاح أضاف ثلاثية قيّمة بفضل حركته الذكية داخل المنطقة. ياسين براهيمي، آدم زروقي، جوردان عمورة، عيسى ماندي، بن رحمة، وسليماني كلهم ساهموا بأهداف أو تمريرات حاسمة، في دليل على أن كل لاعب في التشكيلة يُمثل خطراً هجومياً.
هذا التنوع يجعل من الصعب على أي دفاع خصم أن يُركز على إيقاف لاعب واحد. إذا نجحوا في السيطرة على عمورة، سيجدون محرز يُبدع. وإذا حاصروا محرز، سيظهر بونجاح أو أحد اللاعبين الآخرين. المنظومة الهجومية الجزائرية باتت شبيهة بمنتخبات عالمية كبرى، حيث التهديد يأتي من كل الجهات.
الفلسفة التكتيكية لبيتكوفيتش
هذا التحول الهجومي لم يكن صدفة، بل هو نتيجة فلسفة تكتيكية واضحة يتبناها بيتكوفيتش. المدرب البوسني يعتمد على:
الضغط العالي واستعادة الكرة بسرعة: مما يخلق فرصاً هجومية سريعة قبل أن ينظم الخصم دفاعه.
الهجمات المرتدة السريعة: استغلال سرعة عمورة والأجنحة في تحويل الدفاع إلى هجوم في ثوانٍ معدودة.
التمركز الذكي في المنطقة: وجود عدة لاعبين داخل منطقة الجزاء عند الهجمات المنظمة، مما يزيد من احتمالية التسجيل.
الكرات الثابتة: الاستفادة من قوة اللاعبين في اللعب الهوائي لتسجيل أهداف من الركنيات والرميات الحرة.
هذه الفلسفة تُترجم إلى 2.4 هدف لكل مباراة، وهو رقم يضع الجزائر في مصاف أقوى الهجومات على مستوى العالم، وليس فقط أفريقيا.
مقارنة مع هجومات أفريقية أخرى
عندما نُقارن أرقام الجزائر بأقرب منافسيها في أفريقيا، يظهر حجم التفوق بوضوح:
- الجزائر: 24 هدفاً في 10 مباريات (معدل 2.4)
- نيجيريا: حوالي 18-20 هدفاً (معدل 1.8-2.0)
- مصر: حوالي 16-18 هدفاً (معدل 1.6-1.8)
- المغرب: حوالي 15-17 هدفاً (معدل 1.5-1.7)
الفارق ليس بسيطاً، بل واضح وملموس. الجزائر تتفوق بـ4-6 أهداف على أقرب منافسيها، وهو فارق كبير في 10 مباريات فقط. هذا يعني أن الهجوم الجزائري كان الأكثر فعالية وخطورة في القارة بأكملها.
مع استمرار عمورة في التطور، وثبات المنظومة الهجومية، فإن المستقبل يبدو واعداً جداً للمنتخب الجزائري. عمورة لم يبلغ ذروته بعد، وهو في سن (24 عاماً) ما زال يتحسن مع كل مباراة. إذا استمر بنفس الوتيرة، قد يُصبح الهداف التاريخي للجزائر خلال 3-4 سنوات فقط.
الأهم من ذلك، أن وجود جيل شاب موهوب حول عمورة (مثل عمورة جوردان، زروقي، وآخرين) يضمن استمرارية القوة الهجومية حتى بعد اعتزال الجيل الحالي. الجزائر لم تعد تعتمد على جيل واحد، بل باتت تملك خط إنتاج مستمر من المواهب الهجومية.
هجوم يُخيف الجميع
بـ24 هدفاً في التصفيات، أثبتت الجزائر أنها تملك أقوى هجوم في أفريقيا دون منازع. ومحمد الأمين عمورة، بـ10 أهداف و4 تمريرات حاسمة ومساهمة في 14 هدفاً من 24، أثبت أنه ظاهرة كروية قد لا تتكرر في جيل كامل.
الأرقام تتحدث عن نفسها: 18 هدفاً في 35 مباراة دولية، منها 13 فقط كأساسي، معدل تهديفي يضعه ضمن أفضل المهاجمين في تاريخ المنتخب من حيث النجاعة الزمنية. مع استمرار هذا المستوى، فإن كأس العالم 2026 قد يشهد ميلاد نجم عالمي جديد يحمل الألوان الخضراء ويُرعب دفاعات أقوى المنتخبات.